حكاية محمد سليماني
كنت جالسا في إحدى المقاهي أحاول أن أستمتع بلحظة هدوء وسط ضجيج الحياة. كانت الابتسامة مرتسمة على وجوه الجالسين كأنها لوحة زاهية الألوان إلا وجها واحدا شاحبا يخترق هذه اللوحة ببؤسه.
كان رجلا طاعنا في العمر ملابسه مهترئة كأنها تروي قصة سنوات عجاف.كان يدفع عربة قديمة صرير عجلاتها يشي بثقل ما يحمل لا من قارورات البلاستيك الذي يجمعه بل من أوجاع الحياة.
كل خمس خطوات يقف كمن أنهكه الحمل ثم يركع بصعوبة ليأخذ قارورة بلاستيكية من الأرض كأنما يحاول التقاط ما تبقى من كرامة تآكلت تحت وطأة الحاجة.
فجأة التقت عينانا. ألقى علي سلاما من بعيد نظرته مثقلة، ترجمتها نظراته الشاكية كأنها استغاثة بلا كلمات.
نهضت واقتربت منه مدفوعا برغبة لفهم صمته الناطق وقلت بصوت خاڤت كأنني أخشى أن أزيد من ألمه:
رفع عينيه إلي ببطء وكأن السؤال قد أيقظ فيه أوجاعه ثم أجاب بصوت متعب يحمل بين ثناياه انكسارا يصعب وصفه:
وعليكم السلام يا بني ما بي؟ آه ما بي سوى ما تراه أمامك. شيخ أثقلته الأيام و لم تترك لي الحياة سوى هذه العربة وهذا الطريق.
كنت يوما رجلا ذا شأن أعمل وأعيل عائلتي بكرامة لكن الدنيا أبت إلا أن تقلب الموازين. أولادي؟ تركوني كأنني صفحة طويت من كتاب حياتهم. لا أهل و لا صديق.و لا سند.
هذه العربة نعم هي الآن حياتي. أجمع منها ما يسد رمقي و ليس الفقر هو الذي ېقتلني، بل نظرات الناس نظراتهم تشعرني وكأنني عالة و كأن وجودي بات خطأً لا ضرورة له. ولكني أحمد الله على كل حال
ثم صمت كأنما يعيد ترتيب جراحه. خفض رأسه ونظر إلى الأرض وبتنهيدة مثقلة استأنف:
يا بني لو كنت في شبابك فلن أفرط في يومي احمل في قلبي الشكر دائما على الصحة والقوة. لا تدري متى تصبح مثل هذا العجوز الذي يركع كل يوم ليس فقط لجمع القارورات، بل لجمع ما تبقى من نفسه
كانت كلماته كطعڼة في أعماقي أوجعتني أكثر مما أستطيع تحمله. شعرت بمرارة العجز لكنني حاولت أن أبدو متماسكا وقلت له:
لا تحزن يا عمي. الخير ما زال موجودا والدنيا لا تخلو من قلوب رحيمة.
نظر إلي بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة انبثقت من بين تجاعيد وجهه المتعب. قال بصوت اختلط فيه الامتنان بالحزن:
جزاك الله خيرًا يا بني ما أحتاجه أكثر من المال هو هذا الذي فعلته الآن. كلماتك و اهتمامك و إحساسك بي. هذا ما يعيد إلي بعضا من الإحساس بوجودي. فلا شيء أقسى من أن ينساك العالم وأنت لا تزال على قيد الحياة
تركته بعدها لكنه لم يتركني. بقيت نظراته وصوته ووجعه محفورة في ذاكرتي كأنما كل خطوة منه كانت تترك أثرا في قلبي لن يمحوه الزمن.
بكلمات سليماني محمد 📖✍️
#حكاية_محمد_سليماني